لا أعلمُ إن كان مقالي هذا يحتاج إلى إضافةِ خلفيةٍ بسيطةٍ عن السلوك الكويتي "المحبِّ للخير" أم أبدأُ بكتابة الموضوع مباشرةً، ولكن -تَحسُباً – اِعلمْ عزيزي القارئ أنه بين خطّي عرض 28.45° و 30.05° شمال خط الاستواء وبين خطي طول 46.30° و 48.30° شرق خط جرينتش توجد دولة صغيرة اسمُها الكويت يعيش فيها شعبٌ يتنافس –طوعاً وطمعاً- في تقديم الصدقات بجميع أشكالها ومسمياتها، حتى أصبح المغتربونَ فيها بنفس السلوك والتصرفات. "الباقي لك" هو أحد نماذج العطاء الدارجة هُنا، وهو أن يتنازلَ الشخصُ عن بقية المبالغ المدفوعة منه لصالح الشخصِ المُسلِّم للبضاعة أو العامل عليها أو ناقلها، وغالباً ما يُرد عليها بكلمة "شكراً" وتبتسم جميع الأطراف.
ذات يَوم، ذهبت مع والدتي لشراء الغداء من مطعمٍ "إقليمي" عُرف عنه لذَة الكباب والمشويات، وعُرف عنه أيضاً نظافته الاستثنائية وكثرةُ موظفيه حاملي هوية الدولة الإقليمية ذاتها، ولأننا لم نَجد مكاناً قريباً نركُن فيه السيّارة، طلبنا من أحد العاملين فيه إيصال الطلب للسيارة فور انتهائه، فوافَق –مشكوراً- بصدرٍ رحب، وبعد برهة ، وصل العامل حاملاً الكثير من الأكياس ووضعها في السيارة ثم قدّم لنا بقية المبلغ عبر النافذة، فما كان منا إلا أن تلفّظنا تلقائياً بالجملة المعهودة : "الباقي لك".
لأول مرَة، لم يكن الجوابُ شاكراً أبداً ، بل على النقيضِ تماماً، انتفض العامل بطريقة أحرجتنا وقال بصوت صارمٍ -ومحترمٍ في نفس الوقت- : أنني أنا أعملُ هنا بجُهدي واستلم عليه راتبي ولا أقبلُ الصدقات. لا أعلمُ إن كان اتساعُ عيناي ذهولاً أم حرجاً أم غيظاً ، لكنها استمرت باتساعها -على آخرها- لمدة ليست بالقليلة، ثم مددت يدي لاستلم المبلغ وغادرنا. كان هذا الموقف جديراً بالتوقف وبالتحليل والتأمل، وبت أفكر في موضوع "الباقي لك" من الزاوية المقابلة وليس من زاوية الواهب، هل سأشعر بنفس الانتفاضة لو كنت مكانه ؟ هل سيكون ردي بنفس الحزم؟ أم أكثر لُطفاً؟ أم أكثر قسوة؟ رغم أنني متيقنة بوجود ابتسامة لطيفة على وجهي حين قلت العبارة إياها.
أتذكر الآن دهشتي أيضاً وأنا في المكتبة ، حينما كنت أتصفح الكتب وأقرأ العناوين على الأرفف التي تفوقني طولاً وعرضاً، حتى استوقفني كتاب بعنوان (الفتوحات العربية في روايات المغلوبين) للكاتب حسام عيناتي، روايات المغلوبين؟ لطالما كان مفهوم الفتوحات مقروناً بالشعور بالنصر والعزة، فهل فكرنا بماذا شعر المهزومون تحت سيوفنا؟ كل الأمور اختلفت بعد هذا العنوان ، وبعد الموقف الذي مررنا به في المطعم. تغيّر العطاء، ليس شكلاً ولا عدداً ولكن مضموناً، أصبح عطائي على استحياء ، واصبحت أكثر حذراً ويقظة للغة جسدي ونبرة صوتي واتساع ابتسامتي لأي مساعدة أقدمها، وبتُّ أكثر تفهُماً لأي علامة رفض ، بل أسابق بالاعتذار حين أشعر بأن الموضوع أدى لغير ما نُوِيَ له. يقول الله عز وجل : الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) ، ورغم أني – ويشهد الله على ذلك- لم أقصد في ذلك اليوم مناً ولا أذى ، رأيت أن أشاركك عزيزي القارئ هذا الدرس القصير لعلك تخرج منه بفائدة بسيطة ... و"الباقي لك".